لم يخطر على بالي أبداً أن لقائي بأختي الصغرى الشهيدة سحر يوم 21 نيسان عام 1979 في مدينة النجف سيكون هو اليوم الأخير من حياتي معها، ولو كنت أعرف ذلك لبقيت أتكلم معها وأضحك لعدة ساعات لما تطرحه من تساؤلات وأمور تخص العائلة. للأسف كان نهارًا حزينًا، حيث كنا في يوم أربعينية جدتي والدة أمي والذي أحييناه قرب قبرها وقبر جدي في النجف، وكانت تقريباً بحضور جميع أفراد الأسرة صغارًا وكبارًا، نساءً ورجالًا. كنت أمازحها وهي تضحك وقمت بتقبيلها وهي تصعد السيارة مع والدتي ومن جاء معهم عائدين إلى الناصرية. آه لو كنت أعلم أنني لن أراها مرة أخرى وإلى الأبد، لأبقيتها معي ومع أختي الكبرى الشهيدة موناليزا والتي حضرت معنا وجاءت من بغداد التي كانت قد اختفت فيها عن أنظار جلاوزة النظام المباد للمشاركة في المراسيم، وودعنا حبيبتنا وهي آخر العنقود سحر بالأحضان، وكنا نتصور أننا سوف نلتقيها بعد أسابيع أو شهور! وتفرق شملنا، كل واحد ذهب إلى جهة ينقذ بها نفسه من الملاحقة التي اشتدت بعنف تلك الأيام، وانقطعت سبل معرفة أخبار بعضنا مع البعض الآخر. وفي بداية عام 1985، حيث كنت في مدينة عدن اليمنية، علمت أن أختي سحر قد قُبض عليها بعد مقتل زوجها الشهيد صباح على أيدي رجال أمن النظام، ثم عرفت بعض التفصيلات كونها التقت عن طريق منظمات حزبنا بالشهيد صباح الذي استلم مهمة سكرتير محلية الناصرية بعد الإمساك بسكرتيرها الشهيد صاحب ناصر أبو جميل وتصفيته. التحقت سحر بصلة مع الشهيد صباح وهو ابن منطقتنا وصديقنا ورفيقنا، ومن خلال العلاقة الحزبية أحبّا بعضهما وتزوجا بشكل سري أي دون حفل زفاف وسيارات وحضور الأهل والمعارف، حيث كانوا يختفون في ظروف غاية في القساوة، وعملوا حفلًا صغيرًا في غرفة في بيت والد الصديق الفقيد علي حسين لفتة بالناصرية. ومن خلال العمل الحزبي استأجروا بيتًا صغيرًا في المدينة وكان يتردد عليهم الشهيد مهدي لأمور حزبية تخص التنظيم، ومن خلال وشاية تمت مداهمة البيت واستشهد زوجها صباح وكانت حاملًا في الشهور السبعة الأولى، وهي قد جُرحت وجُرح الشهيد مهدي الذي أُعدم لاحقًا، والشهيدة سحر ولدت ابنها محمد يوم 16 تموز عام 1984 في الخدج في مستشفى بالناصرية، وسرعان ما ولدته تم انتزاعه من صدرها على عجل وزُج به في إحدى المستشفيات، ثم بدأت رحلة العذاب والتنقل ما بين غرف التعذيب والمستشفيات، وخاصة حينما تم نقلها إلى بغداد وزجها في سجن الرشاد للنساء هناك، وكانت مرحلة التعذيب بحقها تتم من قبل زمر همجية من عصابات النظام السابق يرأسهم المجرم المقبور عواد البندر، وكانت آخر إقامة لها هو في سجن أبو غريب ببغداد والذي أُعدمت فيه. وخلال كل فترة مكوثها في السجن، لم تتم زيارتها من قبل العائلة أو أحد الأقارب، حتى حينما سرّبت رسالة إلى والد زوجها تدعوهم لزيارتها، لكن الخوف من البطش بمن يأتي إليها كان هو العامل الرئيسي في عدم تحقيق رغبتها الأخيرة في أن ترى أي قريب حتى توصيه خيرًا بسلامة ابنها والاعتناء به. وفي يوم 31 تموز عام 1984 أي بعد أسبوعين من ولادتها، حكمت ما تسمى (محكمة الثورة) عليها بالإعدام الذي كان في بدايته كحكم بالمؤبد والذي سرعان ما استبدله المجرم عواد البندر إلى الإعدام شنقًا حتى الموت إرضاءً لسيده المجرم صدام وأيضًا لنزعته السادية في إزهاق روح شابة أكملت العشرين من عمرها يوم 9 آب عام 1984 في السجن، وكانت مكلومة بمقتل زوجها قبل أسابيع وتنتظر مولودها البكر بألم ولهفة. لكن المجرمين البعثيين لا يرتوون من شرب دماء الشيوعيين الأبرياء. أكيد المجرم المعدوم عواد حصل على شكر خاص من ولي نعمته صدام وبضعة آلاف من الدنانير. أربعون عامًا مرت ثقيلة مليئة بالهموم والأحزان كنت وبقية أفراد الأسرة نتذكر فيها أختنا الحبيبة سحر بشكل دائم، وبعد سقوط النظام الساقط أصلًا تابعت عائلتنا كما بقية عوائل الضحايا أخبار الشهداء وعرفنا أن اسمها الثلاثي موجود في مقبرة محمد السكران في بغداد وهي مع جمع كبير من الضحايا ولا يمكن تفريق عظامها عن البقية، فقد تم زج عدد منهم في قبر جماعي. ماتت سحر حرة أبية ورفعت عاليًا اسم حزبها وعائلتها بينما ذهب صدام وعواد وبرزان وطه الجزراوي وغيرهم إلى المزبلة تلاحقهم لعنات شعبنا العراقي. المجد للشهيدة الحبيبة أختنا الصغرى سحر والمجد لزوجها الشهيد صباح طارش وكافة الشهداء الميامين.
ملاحظة:
بعد مدة من الزمن قامت أخت الشهيد صباح وهي عمة ابنها محمد بانتشاله وتربيته إلى أن كبر وتزوج وهو الآن يعمل مفوض شرطة وله ابن اسمه فهد. وحول المجرم عواد البندر فقد اختاره صدام لهذه المهمة لأنه كما كان يعتقد أقذرهم من البعثيين الشيعة الذين قدموا خدماتهم لصدام ونظامه وحصلوا على ما يسمى المكرمات (مكرمة الرئيس) وهي عبارة عن بضعة دنانير من السحت الحرام لإشباع نفوسهم المريضة في سفك دماء بنات وأبناء شعبنا الأبرياء. وُلد عواد المقبور في عام 1944 في البصرة وهو مسلم شيعي مثل نعيم حداد ومزبان خضر هادي وجاسم الركابي وعزيز صالح النومان وغيرهم من الشيعة الذين تحمسوا بقدر كبير جدًا لتقديم الخدمة لصدام شخصيًا ولنظامه، حتى أن صدام تمنى أن يكون قبر عواد البندر قرب قبره في حالة تنفيذ حكم الإعدام بحقهما، وكان عواد يتمنى أن يكون يوم إعدامه مع يوم إعدام صدام أي في 30 ديسمبر عام 2006، لكنه تأخر إلى يوم 15 كانون الثاني عام 2007 بعد أن أصدرت المحكمة الجنائية العراقية حكمها بإعدامه بتاريخ 5 تشرين الثاني عام 2006. وبعد تنفيذ الحكم بحقه، اتصلت ابنة صدام رغد من الأردن تلفونيًا بنائب محافظ صلاح الدين وقتذاك عبد الله جبارة وطلبت منه أن يتم دفن عواد البندر قرب قبر والدها صدام وقالت له: "إن هذه وصية والدي والتي كانت هي أيضًا وصية عواد البندر (شلون اثنين !!)". وكان عواد البندر رجلًا مريضًا نفسيًا لا يرتضي لأي محكوم بالمؤبد أن يبقى على حكمه ما لم يغيره بسرعة إلى الإعدام، وقد أزهق أرواح مئات السياسيين دون رحمة وكان ينال الجزاء والشكر من سيده وولي نعمته صدام بالإضافة إلى الأموال. وقبل سنوات حدثتني إحدى الرفيقات والتي مكثت فترة في السجن بأن عواد كان يعذبهم بالكي بالكهرباء وكان يطلق عليهم لقب العاهرات! أحيي قضاة المحكمة الأبطال الذين أثلجوا صدورنا بإعدام عواد وصدام وشلتهم الباغية وأنقذوا الشعب من شرورهم وثأروا لدماء الشهداء الأبرار.
كتب بتأريخ : الأحد 13-04-2025
عدد القراء : 300
عدد التعليقات : 0