يوم ١٣ نيسان ١٩٧٥ بدأت الحرب من مجزرةً (عين الرمانة). كنّا في طريقنا
إلى الجنوب اللبناني حين انقطع بثّ الراديو بين إعلان عن مسحوق الغسيل
المفضل لدى النساء العصريات و سيكارة (مارلبورو) ذات النكهة البرية ليذاع
الخبر. غابت السهول الخضراء تحت (الغطيط) والقمم المعممة بالسحاب عن
بصيرتنا، وحل ذلك الشيء الفظيع الغامض الذي يترك مرارة في الفم دون أية
صورة أو اسم. توقفنا في الطريق عند قاعدة لفتح وخرج لنا رجل أشيب أجعد
الشعر عرفت لاحقًا إنه (أبو خالد العملة). تربع على الأرض وقال وهو يزيح
نظره عنّا "اليوم بدأت الحرب. سجلوا هذا التاريخ جيدا!"
وأخذ يخط على الأرض مسيرة الحافلة حافراً بالحجر موقع المجزرة. لم يكن
الحدث بهذا التجريد، فالنهار الواضح البسيط لا يشكل ديكورا مناسباً لمجزرة،
بل إن سوية الأشياء ووضوحها أعطت لسائق البوسطةً وهو يرود الطريق الذي
قطعه مرات ومرات غيبوبة العادة. الطريق كما هو، يأخذ الحافلة والأسهم تشير
لانعطافاته، الأشجار على جانبيه ساكنة، ولم يرفع السائرون في الطريق رؤوسهم
لإلقاء النظرة الأخيرة إلى الشاحنة ليروا السائرين نحو المجزرة. سويّة
الأشياء خدّرت القتلى داخل الحافلة فالشيوخ داخوا من دويّ السيارة وذهاب
الأمكنة، والأمهات قلقات على مغادرة بيوتهن، يعللن النفس بفرحة رؤية
الأقارب، بينما نَفَرَ الأطفال من أذرع أمهاتهم إلى النوافذ التي تريهم
واجهات حوانيت فيها لعب بحجم البني آدم، وديكة حقيقية من الحلوى وحدائق
فيها مراجيح معلقة في السماء تهزها فراشات تقول لهم: تعال تعال تعال...! ما
من أحد تنبه للحاجز القادم. فالسياسة وقراراتها جرت خلسة في غرف
السياسيين، وما من أحد من الركاب يدري أنه اختير لتسجيل بداية تاريخ الدم
في لبنان: ملثمون بلا ملامح ولا أسماء أوقفوا الحافلة وأطلقوا النار من
الرشاشات على الركاب الذين قتلوا جميعا قبل أن يخرجوا من الدهشة إلى
السؤال. كأنني رأيت المشهد كاملا في اللازمان و اللامكان كما في لوحة
(مجازر في كوريا) التي رسمها بيكاسو من وحي (غويا). المكان غريب، فمن السهل
العاري الذي ستحدث فيه المذبحة يصعد طريق ملتو إلى لا مكان، والوقت نهاية
النهار أو بدايته. كل شيء سوي وواضح عدا القتلة والمقتولين. لا يمت القتلة
لزماننا ولا مكاننا، بل يمتون لأسلحتهم الجاهزة للقتل. أغرب منهم الناس
الذين سيقتلون عما قليل: نساء حوامل يتطلعن للقتلة بدهشة ساكنة: ما اللعبة
وبماذا يلعبون، ولماذا هم هكذا؟ ثمة طفل عند أقدام أمه يلعب بالتراب غير
آبه بالقتلة والقتلى، وطفل آخر خبأ وجهه في ظهر أمه لا يريد أن يرى. لا أحد
يريد أن يهرب كأن الموت قدر هين: بضع رصاصات (تـ. تـ. تـ..) وتنتهي
اللعبة.
مجزرة عين الرمانة شدتني لتلك الخارطة المشؤومة التي رسمت على الأرض، ولذاك
المثلث بالتحديد: النبعة، وجسر الباشا، وتل الزعتر، إنه النتوء المعيق في
خارطة التقسم، لأنه يعيق سيطرة الكتائب على المتن الشمالي، ويقطع خط اتصال
مواقعهم الحصينة في شرقي بيروت، وبين ساحل البحر شمالها.
أخطو أولى خطواتي نحو مدينة عرفتها زمناً وتتنكر لي الآن. آثار الرصاص
والقنابل على حيطانها. حواجز ومسلحون على طول الطريق إلى (شاتيلا)، ليس
بينهم وجه أعرفه. كان ممكناً لو بقيت أن أكون واحداً منهم، أن أكون قطعت
مثلهم قرون التجربة وعقودها. أتوغّل في قلب هذا المخيم الذي عرفت بيوته
وطرقاته الضيقة، بيوت عشوائية تمتد مع خطوات السائر وتنعطف حين يستدير نحو
اليسار أو اليمين وتنغلق فجأة حين يقرر أن يبني بيتاً. أمشي في الزقاق وأنا
أتفحص الجدران التي تغطت بصور الشهداء، أمشي وأنا أسأل الزقاق الذي يحمل
خطواتي: ترى هل يتذكرني كما أتذكره الآن؟ أشعر بالوجل من التوغل في
جغرافيته وفي التاريخ الذي أضيف اليه منذ سنوات. لقد كبر الصغار وأصبح طلاب
المدارس أشبالاً، والكبار رأوا أو فقدوا من الوجوه مايكفي لأن يجعل وجهي
بينهم صورة في كتاب ورّقوه سريعاً. طوال هذه الفترة لم تتغير الأبنية
كثيراً... ذات البيوت. وأسأل نفسي: مؤكد أن (أبو أحمد) مازال يسكن هذا
البيت لأنه ملكه، ومازال مالك هذه البناية الجشع كما هو، ينبه الطلبة الى
موعد الإيجار قبل حلول الموعد. وهذه الأبنية التي كانت تسكنها الطالبات
السعوديات المتأنقات. المتاريس والحواجز والمكاتب العسكرية الجديدة غيرّت
شيئاً من ملامح هذه الطرق. وهذه الفجوات السود في وآثار الرصاص تنقّط
الأبنية بكثافة. أعرف بعض الشهداء من صورهم على الجدران. كما في كوابيسي
خيل لي أني لن أعرف أحداً في هذه المدينة. من أحد المكاتب العسكرية أتصل
بالتلفون برقم ، في الجانب الآخر شخص أعرفه، ترى هل هو موجود حقاً؟ هل
يتذكرني؟ الغريب أن الصوت ذاته يجيبني، و أهرع اليه. إذاً أنا أعرف رفيقاً
في هذه المدينة. وأذهب اليهم سريعاً وأجدهم كما هم؛ مؤيد، شريف، أميل...
مؤيد كبر قليلاً وازداد وجهه شحوباً واستطالة.
* * *
ونحن عائدان الى البيت عبر شارع المخيم الرئيسي كنت أرى في الظلمة عيون
الحرس وراء المتاريس. محال الخضار والفواكه مفتوحة ومضاءة لتعطيني إحساساً
بالأمان: الحياة مستمرة! قبل أن نتوقف أنا ومؤيد الراوي كسرت زجاجة الصمت
صلية رشاش قريب. خطفني وميض الرصاصات فملت قليلاً الى الجدار لأحتمي به.
منذ ست سنوات وأنا منقطع عن أصوات الرصاص فاعتدت الطمأنينة. بقي مؤيد في
مكانه يتحدث الى بائع الفواكه، وبقي بائع الفواكه ينتقي بدقة دون أن يلتفت
لمصدر الرصاص. قالا لي إنها باتجاه آخر. لكن الرصاصة كانت بالنسبة لأذني،
التي فارقت هذه الأصوات منذ زمن، تستهدف جسدي وحده. الجسد لا العقل هو الذي
يستجيب أولاً لصوت الرصاصة.
بمجرد أن فتحنا الضوء في غرفة مؤيد حتى بدأت تدوي القذائف؛ هذا صوت الهاون
في برج البراجنة، وهذه كاتيوشا، وهذه صليات الدوشكا. اقترب القصف وأصبح في
دوار شاتيلا. مؤكد أن قوات الردع السورية شاركت. هذه مدفعيتهم الثقيلة. هذه
الرماية من شارعنا ستشمل كل المنطقة... كنا أنا ومؤيد وعناصر من المقاومة
على شرفة بيتهم نراقب خطوط الضوء التي تتركها الرصاصات والصواريخ ونحن نخمن
تلقائياً:هل هذا تمهيد لدخولهم؟
أطفأت الضوء وحل في جسدي برود غريب.
لا أعرف من بين كل خطوط الضوء من هي القذيفة التي ستأتينا. عسكري متمرس وقف إلى جانبنا في الشرفةً وبدأ يحلل هذه الرماية:
-لن يأتوا الآن. إذا أرادوا سيبدأون في الصباح.
استمرت الرماية طوال الليل. تهدأ فنتذوّق الهدنةً ونتوهم السلام، ثم تشتعل
مرة أخرى من رصاصة أو قذيفة جديدة. كدت أسقط من السرير من شدة الهزات.
19/12/1976
عجيب! كأنهم على موعد مع الموت. ما أن فتحنا عيوننا من ليلةً مرعبة حتى
بدأت القذائف و الصليات تلعلع وتهزّ البناية التي أحتمي بها. هل هو الخوف
أم القرف هذا الذي يعّصر أمعائي؟ مستلق على السرير عاجز عن النهوض. أخمن:
ماذا وراء هذا القصف؟ مؤكد أن قصفهم سيستمر أياماً قبل الدخول. ما الذي
سأفعله؟ ليس في نيتي البقاء هنا، لكنني لا أنهض مع إني أدرك خطأ اختيار
المكان.
خرجت لاستطلاع ما يحدث. خجلت من الحياة لأنها تسير بتلقائية غريبة. المعارك
لا تشغل إلا اُناساً محدودين و منذورين لها، أما الباقون، فيمارسون حياتهم
بتلقائية. محال البيع مازالت مفتوحة وهناك من يشتري دون أن يلتفت لمصدر
النار. أمامي على السطح امرأة تنشر الغسيل. تمد رأسها من الشرفة لتعرف ما
يحدث. تحت، مقاتلون يجوبون الشوارع محملين بكل ما يمكن حمله من صواريخ
وقنابل. يذهبون أو يدورون في أماكنهم بانتظار ما سيأتي. أسأل أحدهم؛ يقول
باستخفاف:
-مين عارف؟ والله ضاعت.
أضحك معه، أتجول داخل المخيم وأنا أقتبس لا أبالية الناس. وكلما أصبحت أقرب
الى هذه الحركة اللاهية للناس تلاشت وطأة الخوف. الخوف هو الذاتية، هو
أوهام الذات والجسد المعزول الذي يحتج على حصار الموت. أرى مقاتلين يذهبون
لموقع الاشتباك يفرّغون ذخيرتهم ثم يرجعون ثم يعودون للقتال. المدفعية
الثقيلة للجيش النظامي السوري الذي يحيط المخيم مميزة ومتتالية تشلّ المنطق
والتخمينات. والناس في المخيم متلهفون للقتال. يريدون كسر التردد
والانتظار الذي لاجدوى منه. يريدون هزّ السياسة التي تخنقهم بالشيء الوحيد
الذي تبقى لديهم، رصاصاتهم وقنابلهم اليدوية.
للحظات يتوقف الاشتباك حتى يتلمس الإنسان طعم الحياة والأمان ثم يعود من
جديد. الجسد لا يستمر هنا في حالة واحدة، وهنا يكمن الأثر المرير لما يسمى
اللاحرب والسلم وحرب الأعصاب.. هذه التعابير التي نسمعها في الحياة والكتب
مجرد اصطلاحات.
بين القتال والهدنةً القصيرة تغيرت الحياة الاجتماعية. لقد قضى الناس أياماً طوالًا في الملاجئ. نساء ورجال حشروا في مكان ضيق. شبان لم يعرفوا السياسة و ما أرادوا أن يعرفوها انفصلوا عن عوائلهم وراحوا لجبهات القتال. أمامي في نهاية الزقاق وتحت ضوء شاحب شابة بملابس عسكرية وعلى كتفها كلاشنكوف تحرس مدخل الزقاق. تتمشى بين جدارين متقابلين. أسأل المقاتل الكهل أبو أحمد عن الظاهرة فيجيبني من دون تردد:
-ومالوا؟ على الأقل تحمي شرفها؟
تتنحنح ابنته محتجة على الكذبة. لا يريد هذا الخيار لإبنته. لا يستطيع تخيل ابنته تتبادل الحراسة مع شاب. في ليالي الحراسة الطويلة يصبح الخطر والانتظار رديف الشهوات. كنت أكتب في شقة صديقي وباب الشقة مفتوح على مدخل العمارة. وقفت عند باب الشقة فتاة لبنانية تحمل مدفع (آر بي جي). سألتني ماذا أكتب؟ قلت لها تقريراً لجريدتي. رأت النبيذ أمامي، سألتني أن أسمح لها بتناول جرعة. قلت لها : لكنك في واجب! قالت إنها أنهت واجبها وتنتظر أن ينزل رفيق من المكتب ليستلم النوبة. شربت النبيذ بحمية وهي تتحدث بالسياسة، ولكنني رأيت وعيها منفصلاً، لأنها تنظر للسرير النظيف الدافئ في الشقة. الحراسة والقتال أكسباها شجاعةً وفصاحة. على عكسها كنت خائفًا من دعوتها للدخول. كيف يمكن أن أعاشر امرأة تحمل آر بي جي؟!
20/12/1967
أطفال الحرب
في الطريق إلى (الدامور). هناك تعيش معظم العوائل المهجرة من (تل الزعتر). مررنا بحواجز عديدة لقوات الردع. في كل حاجز يحشر الجنود السوريون رؤوسهم يتطلعون في العيون وتسود لحظات من الصمت المشحون بتيار من الشكوك والمخاوف المتلاحقة، ثم تمضي السيارة. ذهبنا الى (مدرسة أشبال تل الزعتر). الاطفال أكثر قدرة على النسيان، إنهم مرحون كعادتهم، شياطين صخابون التفوا حول استاذهم الذي كان يرافقني (عز الدين المناصرة) وأخذوا يصافحونه ويسألونه. لماذا تركهم؟ أردت أن أكتشف عليهم أثراً مما حدث هناك؛ غيمة حزن، خط قسوة، كبر مؤقت... لكن هيهات، فالطفولة غطت كل ذلك ظاهرياً. بدأت استجوبهم و جهاز التسجيل يدور. إجاباتهم مختزلة في البداية. لقد أنهكوا من الاجابات ثم تدريجياً يسردون الحوادث.اسمعهم و انا لا أكف عن البكاء غير متحرج من المدرسات الشابات وهن يراقبنني. لا حدود لقسوة الانسان ولا حدود لتحمله. كل الروايات التي قرأتها والأفلام لا تصل لما سمعته. شيء يكاد يفوق الخيال. أن يمسك انسان ما بطفل رضيع (لم يذق طعم التفاحة – كما يقول ديستوفيسكي) ويخنقه أمام أمه. لقد أجبروا الناس على السير فوق الجثث. فكرت أن الفاجعة تخلق ثأراً بمقدارها. ربما لهذا كان (الأحرار) الذين هجروا من الدامور هم الأشد قسوة وانتقاماً. حاولت أن أستعين بخبرتي ومعرفتي بالمخيم، لكن الخيال يقف عند حافة الصورة مرتعشاً: صورة الناس الذين ماتوا بالأقساط في الملجأ الذي انهار. أعرف أن كثيراً من الكتاب قالوا إن الموت يمكن احتماله، لكن الألم... لا أعتقد أن هناك أحداً في العالم تحمل مثل هذا الألم. بين الناس الذين التقينا بهم أنصاف مجانين وحاقدين. ولن أنسى ما فعله (رفيق عودة) في مكتب إعلام فتح. جاء الى المكتب شيوعيان من المنطقة الغريبة وعندما عرف أنهما مارونيان توترت أعصابه وأخذ يغلي و (يدردم) وحالما خرجا زاغ منا وهو يحمل مسدساً يريد أن يقتلهما. قلنا له لكنهما شيوعيان! قال ومع ذلك، من المؤكد رأونا ونحن نذبح في تل الزعتر... آه لو تعرفون مقدار الحقد الذي في قلبي؟! الحقد مغروس في أعماق الأطفال الذين رأيتهم. واحد منهم حلم بأنه يقتل طفلة كتائبية. كانت متشبثة بحافة بئر. ضرب أصبعها بحجر ثقيل حتى هوت الى قاع البئر.سأعود للكتابة عنهم ، ولا أدري كيف؟ قضيت الليل كله أفكر بهم.
للمدينة قصة تتعلق بالتهجير والتوطين التي تتكرر كثيراً خلال الحروب الأهلية. القادة في الحروب الأهلية يتبعون أساليب الحروب الثورية نفسها في الاستيلاء على الارض. هدفهم كسب السكان المدنيين الذين وصفهم (ماو تسي تونغ) ب( الماء للاسماك). بدونه يموتون. قادة الحرب الأهلية يطرحون انفسهم ممثلين سياسيين وفي الوقت نفسه قوميين ودينيين لإثنياتهم وطوائفهم. لكنهم عاجزون، ويدركون انهم عاجزون عن كسب الجمهور الآخر للفكرة. لذلك يستخدمون التطهير العرقي باستهداف المدنيين بالتحديد وارتكاب المجازر بهدف التهجير و الاستيلاء على الارض. خلال فترة الحرب الأولى ١٩٧٥-١٩٧٦ و بعد اجتياحات متبادلة بقيت جيوب محاصرة داخل الطرفين (تل الزعتر) في المنطقة الكتائبية، و (الدامور) في منطقة سيطرة القوات الوطنية المشتركة. (تل الزعتر) سقط عملياً بعد اجتياح الكتائب (لجسر الباشا) و (الدكوانه). لكن اجتياحه بقي مؤجلاً للحظة المناسبة، وهي اجتياح (الدامور) التي كان يسيطر عليها (نمور) شمعون. لم يكن التقسيم هدفاً للحركة الوطنية، لكن الأمور لا تجري حسب منطقهم الذي يريد لبنان موحداً مع نفسه ومع حركة التحرر العربية. للحرب منطقها الخاص ولها القدرة على تجديد نفسها بديناميكيتها الخاصة، فرغم رفضهم للمساهمة في التقسيم، لكنهم وجدوا انفسهم يساهمون فيه. يعرفون أن التقسيم لم يكن حلاً، بل سبباً للحرب، مع ذلك اجتاحت قوات فلسطينية ولبنانية بلدة الدامور فأجبرت الناجين من أهلها على مغادرة المدينة عن طريق البحر. وعادة، يتبع التطهير توطين لإعادة تشكيل هوية المكان بحيث تصير مناطق كاملة من لون واحد. بعد سقوط (تل الزعتر) سُكّن الناجون في هذه المدينة الساحلية . انتقاماً قام أهل الدامور المسيحيين المهجرين و مقاتليها من (نمور الاحرار) بالتمثيل الوحشي بسكان تل الزعتر. الناجون من تل الزعتر أسكنوا في الدامور. كانت عمليات التهجير و الإسكان جزءاً اساسيا من الحرب اللبنانية.
حين وصلت الى الدامور كنت أسمع صفيراً متواصلاً في أذني يشوش عليّ سماع الآخرين. هناك شيء خفي وحاضر، ربما هو حضور الغائبين. المسيحيون الذين هجّروا من المدينة أنشبوا وجودهم العنيد في بيوت المدينة المهجورة وكنائسها. في هذا الموقع تعرّفت على شاب وشابة فلسطينيين تزوجا في واحد من بيوتها. بيت فاره بست غرف، لكن كل نوافذه وأبوابه اقتلعت من مكانها. في الليل تضاء غرفة العرس بالشموع وتعزل بستارة خفيفة من اكياس المعونة الدولية. من خارجه يبدو البيت كما في أفلام هيتشكوك مهيأ لحدث فضيع سيحدث بعد خطوة. العروس في العشرين من عمرها تكره هذا البيت وتفضل عليه بيتها الفقير الواضح في تل الزعتر. الزوج يرد عليها مازحاً:
-ما تصدقها! هي خيفانة.
ومم تخاف هذه الشابة التي قضت عاماً ونصف بين الجثة والجثة، والرصاصة والرصاصة والصرخة والصرخة؟ أسأل فيردني الزوج:
-إسألها؟
من ترددها ومقاطعات الزوج عرفت أنها تخاف من البيت حمّامه. وهي تستحم على ضوء الشمعة، صرخت لأنها رأت في الزاوية المعتمة شبح العجوز التي كانت تسكن البيت.. ممسكة بالصليب بكلتا يديها، مختبئة في بيتها وخائفة منه. بعد ذلك ما عادت العروس تطيق البقاء في المكان لأن أشباح الراحلين بقيت تطارد المقيمين الجدد.. علاقتهما ستصبح مشروع قصة تبدأ قبل أن يطبق الحصار على المخيم تماماً. هي الممرضة وهو الجريح. أرادت أن تحمل النقالة من عند قدميه، وكان خجلا من جسده الذي يثقل هذه الشابة، متمسكاً بحافة النقالة، كأنه يريد بذلك أن يقلل من ثقل جسده، أو يقول: ليس ذلك ذنبي. الدم يغطي صدريتها البيضاء، وقد رسم الوهن، والحراسات الطويلة، دائرتين عميقتين حول عينيها، وما كان يعرف كيف يقبل الشفتين، فأخذ يقبل جيدها وهي تشهق، وأنفاسها السريعة الحارة تلهب اذنه، ولا يدري لماذا دفعته عنها بفظاظة. تطلع حوله الى الغرفة، ومنظر محتوياتها المثير للسخرية: جرة ماء، و بوتاجاز قديم وبضعة صحون وشموع وحقيبة ملابس، والفراش المغطى بالأغطية العسكرية.. وكان اتساع الغرفة يفضح بساطة تلك الأشياء المبعثرة.
-أنت تجلب الأغطية من المعسكر، وأنا سأستعير من صديقتي فراشاً وبعض الأواني.
-سنأخذ الطابق العلوي اذا أراد أحد أن ينصب كميناً سيستخدم الطابق الأسفل، سنضع في السلالم صفائح فارغة لتنبهنا عن صعود أيّ متسلل.
وضع عند رأسها مجموعة من القنابل اليدوية ورشاشتين وجرة ماء، وناما…
في ليلة ما سمعنا حركة، حمل هو رشاشاته عارياً ، وهبط السلالم منحنياً ويده على الدرابزين، وأمسكت وهي عارية أيضاً الرشاشة الاخرى وأخذت تراقب من النافذة.
الحلم: وهما نائمان دخل من النافذة رجل يريد أن ينتزع من أحشائها الوليد، بيده غدارة تقطر دماً.
المدينة الموحشة المزدحمة بأشباح الغائبين بدت ديكوراً طبيعياً لمدرسة (أبناء شهداء تل الزعتر).
دخلت المدرسة بخطوات وَجلة مفترضاً أني سأتحدث مع أطفال اجتازوا الطفولة و الكهولة معاً. سأستمع إلى صمتهم كما كلماتهم. معلمتهم في تل الزعتر (سنيّة ابراهيم) طمأنتني:
-لا تخف! كلمتا الموت والمجزرة صارتا أليفتين لديهم.
للتخفيف صنعوا للموت لغة خاصة. (راح) بدلاً من (مات) (رشّوه) بدلا من (أطلقوا النارعليه). إلى الدامور حملوا المجزرة التي عاشوها باعتبارها الصورة الوحيدة للعالم. الطفل (حسين محمد فريجي ١٠ أعوام) لا يلمس أية لعبة خوفاً من أن تنفجر بيديه مثل تلك اللعب التي ترمى مع القذائف لأطفال المخيم خلال الحصار.
دخل الأطفال الدامور بفزع. مامن نافذة في مخيلتهم إلا وخلفها قنّاص،ومامن شجرة إلا وورائها كمين. في الليل ينامون وعيونهم نصف مفتوحة باتجاه الباب والشبّاك.
-ما الذي حدث؟
…
ألتفت للمدير(عزّ الدين المناصرة) طالباً مفتاحًا لهذه الذاكرة العصية.
-قتلوا أباك؟
-آه!
-كيف؟
-رشوه بالكلشن عند الفندقية.
-هل رأيته بعينيك؟
-آه، هو و أخويا.
بالاختزال يبعدون التفاصيل ويبعدونني عنهم أنا القادم لاحقاً لافتح جراحاً يحاولون أن ينسوها. حين يتعبني اختزال الكلمات أدخل درس الرسم وموضوعه (مسيرة الحياة و الموت في تل الزعتر). على ورق الرسم أتابع مسار الرصاصة من (تلّة الراعي) إلى باب ملجأ ( كاليري متي).. كل شيء مرسوم بوضوح المذبحة التي حدثت في عزّ النهار. الرباعية بفوّهاتها الأربع المفتوحة كعيون ميدوزا مسلطة من التلّة على المخيّم المزدحم بالموت. بواحدة من رصاصاتها قتل طفل وأمه الممسكة بيده.
-من هذا؟
-حسّان. خيي الصغير.. هو وأمي راحوا بالقنص عند حنفيّة الميّة.
المكان هو المكان نفسه كما قالت المعلمة، وكذلك الحادث بالتفصيل. لم أجرؤ على تحريك الحزن القاسي في عينيه. كل شيء مرسوم بلا رعشة على الورقة التي سلمها لي كوثيقة صامتة.عندما تسأله المعلمة نيابة عني:
-ما هذا؟
-دم.
-دم؟
-آه. دم أختي الممرضة.
-وهذا؟
-قبر بيي.
(نوخه الدوخي١٢ عاماً):
-هذا خيي اللي استشهد.
…
-آه على التلّة. وهذا خيي الثاني قوسوه بباب الملجأ. أمي قالت بدنا نستسلم! زعق عليها:الزعتر ما بيستسلم! إجته قذيفة بباب الملجأ فتته.
-هذا الكميون. خمسة وعشرون طفلاً اختنقوا بالكميون. الناس كانت تطلع على بعضها واحنا نصرخ: بدنا أبونا! قاموا يقوسوا علينا. تحت كان القتل شغّال.
-رأيت ذلك؟
-آه..واحد قالوا له:نزّل إبنك! ما قبلش. قوّسوه وجرّوا ابنه من ورا الجيب و كانت أمو شايفه، وما قدرتش تصرخ.
(آمال منصور١٣ عاماً): كانوا بيعذبونا كثير في الحواجز. يقتلوا الناس عند كل حاجز. ويطلبون من الشاحنة اللي فيها أم الشهيد وأختو أن تدعس عليه.يعذبونا مرة بعد مرة في كل حاجز. لما وصلنا حاجز المتحف كمان نزلونا. الناس قالت : عذبونا في الحواجز السابقة؟ قالوا:معليش، كمان مرة.