الانتقال الى مكتبة الفيديو

 
العدالة الدولية تحت المطرقة (الجزء- 5)

الموقف الأمريكي من المحكمة الجنائية الدولية (ICC)، منسجم مع توجهات الهيمنة الأمريكية المعروفة على النظام العالمي بكل مؤسساته، بما في ذلك مجلس الأمن الدولي. فهيئات الأمم المتحدة هي ميادين لممارسة النفوذ والقوة والتأثير بالقرارات.

يتمثل أمر تسيير هيئات الأمم المتحدة بحجم نفوذ الدول الأعضاء وقوتها الاقتصادية والعسكرية، وبالطبع نسبة اشتراكاتها السنوية الإجبارية، حتى لو كان لكل دولة عضو صوت واحد بغض النظر عن حجم الاشتراكات، كما هو حال منظمة الأغذية والزراعة الدولية على سبيل المثال (اقرأ الملاحظة في أسفل هذا المقال).

إن محاولات الهيمنة والانحياز (الى إسرائيل مثلاً) جعلت من الولايات المتحدة معزولة غالباً عن أكثرية الدول الأعضاء في التصويت على مستوى الجمعية العامة (التي تتساوى فيها أصوات الدول)، ومن أكثر الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن الدولي استخداماً لحق الفيتو حمايةً لإسرائيل مهما كانت أفعالها.

وبقدر تعلق الأمر بالعدالة الدولية وقضايا حقوق الانسان، فالغرب عموماً، وبالخصوص الولايات المتحدة، تتخذ موقف النفاق حتى في الانتهاكات الأكثر وضوحاً للّوائح الدولية. فقد انسحبت الولايات المتحدة، وإسرائيل كذلك، من مجلس حقوق الانسان، وهو الهيئة الأممية الأبرز التي تسجل انتهاكات حقوق الانسان عبر العالم. وبسبب الانتهاكات المستمرة في الأراضي الفلسطينية فقد وضع مجلس حقوق الانسان بنداً دائماً حول الوضع الفلسطيني، هو البند رقم (7) على بنود اجتماعاته الدورية البالغة عشرة بنود. وفي كل دورة من دورة المجلس يقدم المقررون الخواص والهيئات الأممية تقارير مفصّلة عن انتهاكات إسرائيل للحقوق الفلسطينية. وأتذكر تماماً الخطاب الذ ألقاه وزير الخارجية الأمريكي حينها، جون كيري، في الدورة 28 لمجلس حقوق الانسان في جنيف في آذار 2015، وهو موجود في سجلات تلك الدورة. فقد أشار بلباقة الى كون “النضال الأساسي من أجل الكرامة قوة دافعة في تاريخ البشرية بأسره”...وقال بأن ما يوّحد البشر “هو مجموعة القيم والتطلعات الكونية -Universal Values»، بل أنه اعترف بأنه حتى في أمريكا نفسها “لا يزال هناك المزيد من العمل الذي يتعين القيام به” لتحسين سجل حقوق الانسان. وأقر بضرورة “محاسبة البلدان عندما تفشل في تلبية المعايير الدولية”. وقد دافع في خطابه عن حقوق المثليين جنسياً، وأدان عدداً كبيراً من البلدان ومنها كوريا الشمالية، سوريا، بورما، سريلانكا، روسيا، وإيران وبعض بلدان منطقة الشرق الأوسط، وافريقيا.

كان الجزء المخصص لإدانة سوريا مثيراً. فمن جانب أصبح واضحاً بأن عمليات خشب الجميز (Timber Sycamore) السرّية (2012-2017) التي كلّف بها باراك أوباما وكالة المخابرات المركزية بإسقاط حكم بشار الأسد، عن طريق تمويل الفصائل المسلحة المتطرفة وتزويدها بالسلاح، وأسفرت عن تحطيم سوريا وبقاء الدكتاتور مطمئناً في قصره. ومن جانب آخر شنّ كيري هجوماً لاذعاً على الحكومة السورية واتهمها باستخدام “الجوع كسلاح حرب، وقصف المدارس والمستشفيات والمساجد”، وهذه الأفعال الإجرامية نفسها التي كانت تجري بعيداً عن الكاميرات، تجري منذ سنة ونصف أمام الأعين ببشاعة أكبر وتنقلها الكاميرات مباشرة، وأن أمريكا هي الداعم الأكبر لتلك العمليات!

أما الفضيحة الأخلاقية الأكبر في كلمة جون كيري، فكانت محاولته إقناع (اقرأ إجبار) مجلس حقوق الإنسان على الغاء البند السابع من أجندة اجتماعاته المخصص للمداولات حول الوضع في فلسطين المحتلة. فقال: “علينا أن نكون جادين في معالجة عوائق التقدم. والعقبة الأوضح هي تلك التي نفرضها على أنفسنا. أتحدث، بالطبع، عن سجل مجلس حقوق الإنسان المقلق للغاية بشأن إسرائيل... ووجود تركيز غير متوازن على تلك الدولة الديمقراطية. لا توجد دولة أخرى لديها بند كامل على جدول أعمالها للتعامل معها. عامًا بعد عام، تُصدر خمسة أو ست قرارات منفصلة بشأن إسرائيل. هذا العام، هناك قرار يتعلق بالجولان... أسأل، كيف يُعقل أن يكون ذلك أولوية في الوقت الذي يتدفق فيه اللاجئون من سوريا إلى الجولان هربًا من حكم الأسد القاتل وتلقي العلاج على يد أطباء إسرائيليين؟ ... إن هوس مجلس حقوق الإنسان بإسرائيل يُهدد بتقويض مصداقية المجلس بأكمله...ولا ينبغي لأحد أن يشك ولو للحظة في أن الولايات المتحدة ستعارض أي جهد من أي جهة أو طرف في منظومة الأمم المتحدة لنزع الشرعية عن إسرائيل أو عزلها - ليس فقط في مجلس حقوق الإنسان، بل أينما حدث».

غادر جون كيري وباراك أوباما منصبيهما وهما يتحملان أعباءً أخلاقية على ضميريهما، لكن مجلس حقوق الإنسان ما زال يعمل وفق الأسس التي أنشأ من أجلها. وبرزت شخصيات أممية فذة تدافع عن الحق. وأجد من الطبيعي الإشادة بالمحامية الإيطالية “فرانشيسكا البانيز” المقرر الخاص للأمم المتحدة في الأراضي الفلسطينية، لما اتصفت به من جرأة وإصرار ومصداقية قلّ نظيرها في توثيق جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية وجريمة الإبادة المرتكبة في غزة، وهي تتعرض الى حملات من الضغوط والتسقيط التي وقفت بوجهها بكل قوة وإباء.

الملاحظة: تدفع الولايات المتحدة (22%) من موازنة الأمم المتحدة السنوية البالغة بحدود 6 مليار دولار، عدا مساهماتها الطوعية الأخرى في تمويل صناديق وبرامج الأمم لمتحدة، في حين تبلغ نسبة اشتراكات العراق في المنظمة الدولية بحدود (0.06%)، ولكن للعراق صوت واحد وللولايات المتحدة صوت واحد أيضاً في منظمة الأغذية والزراعة الدولية (فاو) والعديد من الوكالات الأممية الأخرى. أما في برامج وصناديق التمويل الأممية (صندوق التنمية الزراعية الدولي على سبيل المثال) فإن أصوات الدول غير متساوية بل تتناسب مع حجم المساهمات المالية (عدد الأسهم) لكل دولة عضو في البرنامج أو الصندوق الأممي المعني، وبذلك يكون صوت الولايات المتحدة 40 مرة بقدر صوت العراق.

-يتبع-

  كتب بتأريخ :  الثلاثاء 06-05-2025     عدد القراء :  192       عدد التعليقات : 0