... وهذه حلقة اخرى ضمن سلسلة بدأتها منذ سنوات، حملت عنوان "عراقيون من هذا الزمان" توثيق لمحات ظننتها لافتة، عن وجوه وشخصيات عراقية، رحت معها لعقود وعقود مديدة، بعلاقات ونشاطات سياسية ووطنية وثقافية، جديرة ان يُشار لمحطات عنها ايجازا على الاقل .. كما وتوطدت معها صداقات ووشائج انسانية تسجل للتاريخ، بل ويُتباهى بها، ولم لا؟!. أما قيل – ويقال - بان المرء يعّـرف، بما يعرف، باصدقائه ؟! (1)
.. كان اول التعرف والتعارف مع العـزيز فخري كريم (ابي نبيـل) منذ نحو خمسة وخمسين عاما بالتمام والكمال، حين كان مسؤولا، ومشرفا في منظمة بغداد للحزب الشيوعي اواخر السبعينات الماضية، وكنـتُ حينها قد عـدت للهــم السياسي العام "تائبا!" عن النشاط في تشكيلات طلابية لـ "القيادة المركزية" التي انشقت عن الحزب الام، مندفعين - نحن شباب الامس- ومنجذبين لافكار ومُثـلٍ وعناوين، وتضحيات على طريق وطن آمـن حـر، يعيش شعبه بما يستحقه من سعادة ورخاء..
وهكذا بدأت العلاقة تتوطد شيئا فشيئا، وتتعدد في مدرسة - صحيفة "طريق الشعب" التي راحت علنية عام 1973 وكان ابو نبيل مدير تحريرها رسميا، ولكنه كان محورها في مسؤوليات الادارة والتنظيم والعلاقات والطباعة، وغير ذلك كثير.. وكنت ومنذ يومها الاول مكلفاً طلابياً وسياسيا بشؤون صفحة "الطلبة والشباب" الاسبوعية فيها، لسنوات، وبعدها بـ "الصفحة المهنية" الاسبوعية، وحتى اواخـر عام 1978.. كما كلفتُ بمسؤولية بعض شؤون نقابية وسياسية في صفحة "العمال والفلاحين" اليومية، اذ شغلت في حينها عضوية مكتب العمال المركزي للحـزب نحو عامين.. وقد سردتُ ما سبق من سطور لاشير الى انه، وبلا شك، ان تكون العلاقة وطيدة بمثل هذا المسار مع فخري كريـم، المسؤول البارز في صحيفة طريق الشعب كما أسلفت (2)..
ثـم، وبعد عشرة اعوام من العلاقة مع ابي نبيـل ببغداد، يحلّ عام 1979 ليبدأ "موسم" الهجرة الى الخارج الذي تحول الى"عقـود" منذ اواخر السبعينات، وعلى امتداد ربع قرن، اي حتى حيان سقوط نظام غلاة البعثيين، الدكتاتوري الارهابي عام 2003 .. وخلال تلكم السنوات الخمس والعشرين استمرت العلاقة مع الرجل الذى تولى مسؤوليات مهمة ومتنوعة، معروفة، رفيعة وشاقة في آن واحد، في مقريّه الرئيسيين، واعني بهما بيروت ودمشق .. بينما أغتربتُ الى براغ، لاشغال مهام ومسؤوليات تنظيمية وسياسية، طلابية وثقافية وغيرها. وكان فخري كريم يتردد بين فترة واخرى اليها – بـراغ - حيث مقر منظمة الصحفيين العالمية، التي شغل فيها مهمة نائب رئيسها لنحو عقدين. كما تولّى ايضا مسؤولية اصدار النسخة العربية لمجلة "قضايا السلم والاشتراكية" منبـرا ومركزا اعلاميا وفكريا يمثل الاحزاب الشيوعية والعمالية العالمية، ومقرها في براغ ايضا ..
وهكذا أذن تتسع من جديد وتتوطد العلاقات مع ابي نبيـل في براغ، الذي كان يحرص في جميع زياراته اليها للقاء مع المثقفين والاعلاميين العراقيين المقيمين والعاملين في تلك العاصمة الغناء.. ومن غير الطبيعي ان يقيـم فيها الجواهري الكبير، والفنان الرائد محمود صبري، ولا يكونا اول من يهتم بأدامة وتوطيد العلاقة بهما فخري كريم، وهو ذو المسؤولية السياسية والثقافية والاعلامية المهمة في قيادة الحزب الشيوعي العراقي، وانا هنا شاهد، وحاضر عيان - ربما مخضرم – لا سيّما وكنتُ معنيا، لسنوات، بمتابعة عمل ونشاط فرع رابطة الكتاب والصحفيين العراقيين في براغ، تلك الرابطة التي لا يجوز الا وان يُشار لدوره – ابي نبيل- الاهم، في اطلاقها عام 1980 من بيروت، والمشاركة الاساسية في دعم نشاطاتها، ومهامها، لسنوات وسنوات في مركزها القيادي بدمشق. وفي كل من تيّنك العاصمتين كان الرجل يشغل مهامه ومواقعه الوطنية والسياسية المعروفة.. (3)
وعلى ذكر دمشق، حيث كان الجواهري يتناصفها، مع براغ، مع مطلع عقد الثمانينات، مستقرا رحيبا، كان ابو نبيل لا ينقطع عن ايلاء منتهى العناية بالعلاقة مع الشاعر العظيم، والاهتمام به... واذا ما سأفرد في قريب مرأي، كتابة لاحقة، شيّقة كما أحسب، عنهما، من بينها "اخوانيتان" شعريتان للجواهري، عن تلك العلاقة، اشير هنا لواقع موجز، ذي اكثر من دلالة، وهو انه – فخري- كان من قلائل معدودين يدخـل، ويخرج من مستقر الجواهري بدمشق، دون موعد او وقت محدد، مُستثنى من اية رسميات، وانا هنا شاهد ايضا اذ كنت اقيم في ذلكم المستقر (البيت) فترات طويلة، في عقدي الثمانينات والتسعينات..
وفي دمشق ايضا، ومنها، استذكر كيف رحل بنا ابو نبيـل، في حافلة برية الى "القامشلي" السورية، ومنها الى اقليم كردستان العراق، استغرقت حوالي 18 ساعة مع نحو ثلاثين مثقفا واديبا واعلاميا، عراقيا وعربيا، لنشارك في مئوية الجواهري، المهيبة، التي اقيمت في كل من اربيل والسليمانية، وقد كانت بمبادرته – فخري كريم- وهمته، بشهادات موثقة ..
اما عن الانطباعات الشخصية والخاصة عن الرجل الذي تأتي هذه السطور الموجزات عنه فاقول بان العزيز ابا نبيل برغم "كارزميّته" المشهودة، والشهير بها، لكنه اشتهر في الوقت نفسه، بعلاقاته الاجتماعية والانسانية، موثقة ايضا في وقائع واحداث عديدة. ولن اتوسع هنا بهذه الشؤون، اذ اعرف بان الرجل قد يعاتبُ، ويعتبُ، في، وعن ذلك، وأحسب انه كفاه منها "سمينها" واكثر: سياسيا وثقافيا واعلاميا، واجتماعيا، برغم بعض "غثها" الذي ترفعَ وما برح في الردود على "شقشقات" منه هنا وهناك، الا في حالات طفـح بها الكيّل كما يقال.. وتلك خصال لا يقدر عليها كثيرون ممن تصدوا للشأن العام، الوطني والسياسي، وما بينهما، على ما ازعم .. مع ميّـلي - وقد تحدثت معه قبل اسابيع قليلة عن ذلك - واعني اهمية بوحه ببعض ما عنده من كـمٍ غزير من الوقائع والشواهد، التاريخية والوطنية، ما احوج الناس، ولا سيما المتابعين والمعنيين منهم، ان يطلعوا عليها، بقدر ما يرتأيه، ويحسب حسابه، اذ "للمجالس امانات" كما هو سائد، ويسود، وهو بالغ الحرص كما ادري على سيادة الحفاظ على تلك الامانات، خلاف غيره ..
مؤكد ان هناك الكثير الكثير الاخر الذي يمكن التوقف عنده، والاشارة اليه، عن العلاقات والذكريات، الرحيبة في نواح عديدة مع العزيز فخري كريم- ابي نبيل .. غيّر ان هذه الكتابة، مثلها مثل سابقاتها، مواجيز ومحطات وحسب، وآمل ان تكون قد أوفت بما اردت لها، وبها من مؤشرات تفصح وتوثق للتاريخ..
براغ في آيار 2025
احالات واضافات
(1) تحاول هذه التوثيقات التي جاءت في حلقات متتابعة، ، ان تلقي اضواء غير متداولة، أو خلاصات وأنطباعات شخصية، تراكمت على مدى اعوام، بل وعقود عديدة، وبشكل رئيس عن شخصيات عراقية لم تأخذ حقها في التأرخة المناسبة، بحسب مزاعم الكاتب.. وكانت الحلقة الاولى عن علي جواد الراعي، والثانية عن وليد حميد شلتاغ، والثالثة عن حميد مجيد موسى، والرابعة عن خالد العلي، والخامسة عن عبد الحميد برتـو، والسادسة عن موفق فتوحي، والسابعة عن عبد الاله النعيمي، والثامنة عن شيرزاد القاضي، والتاسعة عن ابراهيم خلف المشهداني، والعاشرة عن عدنان الاعسم، والحادية عشرة عن جبار عبد الرضا سعيد، والثانية عشرة عن فيصل لعيبــي، والثالثة عشرة عن محمد عنوز، والرابعة عشرة عن هادي رجب الحافظ،، والخامسة عشرة عن صادق الصايغ، والسادسة عشرة عن صلاح زنكنه، والسابعة عشرة عن عباس الكاظم، والثامنة عشرة عن هادي راضي، والتاسعة عشرة عن ناظم الجواهري، والعشرون عن ليث الحمداني، والحادية والعشرون عن مهند البراك، والثانية والعشرون عن عبد الرزاق الصافي، والثالثة والعشرون عن كمال شاكر، والرابعة والعشرون عن حسون قاسم زنكنة، والخامسة والعشرون عن قيس الصراف والسادسة والعشرون عن محمد الاسدي والسابعة والعشرون عن كفاح الجواهري... وجميعها كُتبت دون معرفة اصحابها، ولم يكن لهم اي اطلاع على ما أحتوته من تفاصيل، وقد نشرت كلها في العديد من وسائل الاعلام..
(2) ثمة تفاصيل ومحطات ذات صلة في توثيق لي منشور في كانون الاول 2013 في مواقع اعلامية عديدة، والى اليوم حمل عنوان " في "طريق الشعب" قبل أربعة عقود… 1973-1978 // شهادات واسماء ومشاهدات"..
(3) ايضا للمزيد من التفاصيل هناك تأرخة مسهبة، بثلاثة اجزاء، نشرتها في تشرين الاول 2024 ويمكن الوصول اليها عبر محرك البحث "غوغـل" تحت عنوان " شخصيات، وشؤون ثقافية عراقية، في تاريخ وذاكرة بـراغ"..
* رئيس مركز الجواهري للثقافة والتوثيق
www.jawahiri.net