-الجزء الأخير-
جلب الرئيس دونالد ترامب الكثير من الفوضى الى النظام الدولي، تأثر بها حلفاء الولايات المتحدة وخصومها على حد سواء. فقد شهد المسرح العالمي صدماتٍ متلاحقة نتيجة الاعلانات المتكررة للرئيس عن رفع نسب الضرائب والرغبة في احتلال قناة بنما وضم كندا وغرينلاند، والامتناع المفاجئ عن التدخل في الحرب الروسية-الأوكرانية، الذي فسر على انه تبني للموقف الروسي، وغير ذلك من مواقف يعتقد أنها حركت الجمود وأسهمت في تهيئة الظروف الى عقد المزيد من الصفقات التجارية.
أدت المقاربة الترامبية ايضاً الى اضعاف منظومة هيئة الأمم المتحدة ووكالاتها، بسبب الهيمنة السياسية والمالية للولايات المتحدة، وكذلك في الانسحاب من الوكالات الأممية التي تختطّ لها نهجاً مستقلاً منسجماً مع روح ميثاق الأمم المتحدة. فقد انسحبت الولايات المتحدة من منظمة الصحة العالمية، ومن الاتفاقية الإطارية للأمم المتحدة حول المناخ، وقد سبقت الإشارة الى انسحابها من مجلس حقوق الانسان، ووقف دعمها لوكالة غوث اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا).
أما الموقف الأمريكي من محكمة العدل الدولية (ICJ) فقد تميز بالانتقائية والغموض. وهو موقف داعم لإسرائيل للإفلات من أحكامها المرتبطة بالشكوى المقدمة من جمهورية جنوب أفريقيا ضد اسرائيل والحرب في غزة. فقد دعمت الولايات المتحدة طلب إسرائيل بتأجيل النطق بالحكم النهائي بالشكوى، ووافقت المحكمة بالنتيجة على منح إسرائيل المزيد من الوقت لتحضير ردودها على تهم الإبادة.
وللمزيد من صب زيت الفضيحة على التواطؤ الأمريكي فقد وقع الرئيس الأمريكي ترامب في يوم 7 شباط 2024 قراراً تنفيذياً هاجم فيه جمهورية جنوب أفريقيا وجاء في النص: "إن جنوب أفريقيا اتخذت مواقف عدائية ضد الولايات المتحدة وحلفائها، وبضمنها اتهام إسرائيل بالإبادة في محكمة العدل الدولية". والمثير في هذا الموقف المنحاز هو أن إدارة ترامب تدفع باتجاه اتهام جمهورية جنوب أفريقيا بارتكاب "إبادة ضد البيض"، وهو أمر تهدف من ورائه "تسخيف" فكرة "الإبادة" التي تتهم بها إسرائيل في محكمة العدل الدولية.
لكن الأمر الأخطر هو العمل على تعطيل قدرة محكمة العدل الدولية في التوصل الى حكم نهائي بالإبادة ضد إسرائيل عن طريق المزيد من الضغوط. فبالإضافة الى تأجيل النطق بالحكم لستة أشهر، واستقالة رئيس المحكمة القاضي اللبناني نوّاف سلام، ليتسلم رئاسة الحكومة اللبنانية، حصلت تطورات من شأنها مساعدة إسرائيل على الإفلات من التهمة، ومنها أن السيدة ناليدي باندور، وزيرة خارجية جنوب أفريقيا، التي تصدّت لمهمة اتهام إسرائيل بكل جرأة وحرفية، فقدت منصبها الوزاري ومقعدها البرلماني في جنوب أفريقيا في الانتخاب العامة الأخيرة التي جرت هناك في شهر أيار الماضي. علماً أن رئيس جنوب أفريقيا قد اتّهم دولاً خارجية في التدخل والتأثير على نتائج الانتخابات في بلاده!
وفي مسارٍ موازٍ، قدمت إسرائيل طلباً مشابهاً الى المحكمة الجنائية الدولية (ICC) بتأجيل تنفيذ حكمها القاضي بالقبض على بنيامين نتنياهو ويوآف غالانت، لكن المحكمة رفضت الطلب الإسرائيلي مما أثار حفيظتها وزاد من هجومها وضغوطها على المحكمة وأعضائها. وقد نجحت أخيراً بعزل القاضي كريم خان عن وظيفته بسبب تهمة التحرش الجنسي ضده التي ينكرها الرجل، الا أنه اضطر قبل أسبوع الى طلب "إجازة إدارية" حتى انتهاء المحققين الدوليين من التحقيق في التهمة الموجهة ضده.
وللإنصاف فقد أدت المحكمة الجنائية الدولية دورها في اصدار مذكرتي الاعتقال بحق اثنين من قادة إسرائيل. أما تحقيق العدالة، وذلك باعتقالهما ومثولهما أمام المحكمة فيتطلب أمور أخرى خارج قدرات المحكمة، لأنه يتعلق بمدى التزام الدول الأعضاء في المحكمة بتنفيذ المذكرتين. مع ذلك يمثًل اصدار مذكرتي الاعتقال انتصاراً أخلاقياً ومعنوياً للعدالة الدولية، إذ أن اسرائيل تدرك بأنها تواجه حقيقة أن 124 دولة عضو في المحكمة الجنائية الدولية تطالب باعتقال ومحاكمة قادتها، وفق المادتين السابعة والثامنة، المختصتين بالجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب من قانون المحكمة. فقد جاء في بيان المدعي العام كريم خان بأن لدى المحكمة "أسباباً معقولة للاعتقاد بأن بنيامين نتنياهو، رئيس وزراء إسرائيل، ويوآف غالانت، وزير الدفاع في إسرائيل، يتحملان المسؤولية الجنائية عن جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التالية التي ارتُكبت على أراضي دولة فلسطين (في قطاع غزة) اعتبارا من الثامن من أكتوبر 2023 على الأقل:
•تجويع المدنيين كأسلوب من أساليب الحرب باعتباره جريمة حرب بما يخالف المادة 8 (2) (ب) (25) من نظام روما الأساسي؛
•وتعمد إحداث معاناة شديدة، أو إلحاق أذى خطير بالجسم أو بالصحة بما يخالف المادة 8 (2) (أ) (3) أو المعاملة القاسية
•باعتبارها جريمة حرب بما يخالف المادة 8 (2) (ج) (1)؛
•والقتل العمد بما يخالف المادة 8 (2) (أ) (1)، أو القتل باعتباره جريمة حرب بما يخالف المادة 8 (2) (ج) (1).
• وتعمد توجيه هجمات ضد السكان المدنيين باعتباره جريمة حرب بما يخالف المادة 8 (2) (ب) (1)، أو المادة 8 (2) (ه) (1).
• والإبادة و/أو القتل العمد بما يخالف المادتين 7 (1) (ب) و7 (1) (أ)، بما في ذلك في سياق الموت الناجم عن التجويع، باعتباره جريمة ضد الإنسانية.
• والاضطهاد باعتباره جريمة ضد الإنسانية بما يخالف المادة 7 (1) (ح).
• وأفعال لا إنسانية أخرى باعتبارها جرائم ضد الإنسانية بما يخالف المادة 7 (1) (ك).
وأن تلك "الجرائم قد ارتُكِبت في إطار نزاع مسلح دولي بين إسرائيل وفلسطين، ونزاع مسلح غير دولي بين إسرائيل وحماس (بالإضافة إلى جماعات مسلحة فلسطينية أخرى) دائرين بالتوازي. وندفع بأن الجرائم ضد الإنسانية التي وُجِّه الاتهام بها قد ارتُكِبت في إطار هجوم واسع النطاق ومنهجي ضد السكان المدنيين الفلسطينيين عملا بسياسة الدولة".