من خلال عقودٍ من العمل السياسي والانخراط في النضال الماركسي ضمن صفوف الحزب الشيوعي العراقي، سواء في ظروف العمل السري أو خلال مرحلة الجبهة الوطنية الديمقراطية، أو حتى في مرحلة الكفاح المسلح الشاق، تشكلت لديَّ قناعات راسخة حول معوقات بناء مجتمع مدني ديمقراطي حقيقي في العراق. لقد كشفت التجربة، وبخاصة عند الانتقال إلى العمل العلني بعد سقوط النظام البعثي، عن حقيقة مرة: أن أغلب المنتسبين للعمل السياسي، حتى في الأحزاب التقدمية، ظلوا أسرى للهويات الفرعية من قومية ومناطقية وحتى اعتبارات شخصية تتعلق براحة الفرد وامتيازاته.
في العمل العلني، تسقط أوراق التوت، وتنكشف الحقائق. كثيرون ممن رفعوا شعارات النضال والتضحية والنكران الذاتي، سرعان ما تكشفوا عن ميول نفعية أو طائفية أو جهوية. وقد بات جلياً أن جزءاً كبيراً من المنخرطين في القوى التي ترفع لواء المدنية والديمقراطية لا يعيشون هذه القيم في سلوكهم اليومي، بل يرددونها كشعارات فقط.
بعد 2003، ظهرت على السطح موجات من الخطاب المدني، وبرزت أحزاب ومنظمات تدّعي تبنيها للديمقراطية وحقوق الإنسان. لكن الواقع أثبت هشاشة هذه القوى، إذ لم تُجذّر داخل المجتمع، ولم ترتبط بجذور اجتماعية قادرة على الدفاع عنها. بل غالباً ما كانت هذه القوى نسخة مخففة من الأحزاب التقليدية، يتغير فيها الشعار دون أن يتغير المضمون.
من المفارقات المؤلمة أن الدعوات لتحرر المرأة ورفض الحجاب قد طُرحت في العراق قبل أكثر من قرن على يد المفكر والشاعر جميل صدقي الزهاوي، حين كتب بجرأة عن ضرورة السفور وتعليم النساء ومشاركتهن في الشأن العام. كان ذلك في بدايات القرن العشرين، وقد واجه حينها حملة شرسة من رجال الدين والمحافظين، بل تم فصله من مناصبه بسبب آرائه. ومع ذلك، لم يتراجع.
واليوم، بعد مرور أكثر من مئة عام، وفي ظل ادعاءات بالمدنية واليسار والتقدم، لا تزال مشاركة المرأة في النشاط السياسي والاجتماعي محدودة، بل ويغيب صوتها عن أغلب الفعاليات، وغالبًا ما يكون ذلك بإرادة الذكور "المدنيين" أنفسهم. إن هذا التراجع يكشف بوضوح أن الخطاب المدني في العراق لم يرتقِ حتى إلى مستوى الزهاوي، لا في الجرأة ولا في الصدق.
المعضلة الأعمق تكمن في أن المجتمع العراقي نفسه لم يتحرر بعد. فما زالت البُنى العشائرية، والتقاليد البالية، والنظرة الذكورية، والروح المحافظة تهيمن على سلوك الأفراد. فكيف يمكن لمجتمع لم يتحرر اجتماعياً أن يتبنى الفكر المدني والديمقراطي؟ إن من الغرابة أن يحضر رجال يدّعون الماركسية والديمقراطية فعاليات المجتمع المدني، بينما لا تظهر زوجاتهم إلى العلن، ولا يشاركن في هذه النشاطات. بل الأكثر مفارقة أن بعض النساء السافرات المستقلات فكرياً، ولا ينتمين لأي حزب، هنَّ أكثر تحرراً فعلياً من قريناتهن المنتميات لأحزاب تدّعي المدنية.
هنا تتكشف لنا الحقيقة المرّة: لا يمكن بناء ديمقراطية حقيقية في مجتمع لم يتحرر من القهر الاجتماعي. النضال الطبقي والسياسي لا يكفي ما لم يُرافقه نضال اجتماعي عميق. لا يمكن تغيير شكل السلطة دون تغيير جوهر العلاقات الاجتماعية داخل الأسرة والمدرسة والحي.
من هنا، فإن الحديث عن قوة مدنية في العراق يبقى أمنية مشروعة أكثر منه واقعاً فعلياً. لابد من إعادة الاعتبار للعمل الثقافي، والتركيز على بناء وعي اجتماعي طويل النفس، يسبق أو يوازي العمل السياسي. فالمجتمعات لا تتغير بالانتخابات وحدها، بل من خلال إعادة تشكيل منظومتها القيمية.
إذا لم نُحرّر العقل أولاً، ونكسر قيود العادات، ونعيد النظر في أنماط التربية والسلطة، فإن المدنية ستبقى زياً خارجياً هشاً، والديمقراطية ستظل مجرد مظلة لفظية، سرعان ما تنهار عند أول اختبار طائفي أو جهوي.
المطلوب اليوم ليس فقط أحزاباً مدنية، بل أفراداً متحررين. لا يكفي أن نرفع الشعارات، بل أن نعيشها في تفاصيل حياتنا. وإلا، فسيبقى "البعير على التل"، كما يقول المثل الشعبي، وسنبقى ندور في حلقة مفرغة من الخيبات والتكرار.