بين العاشرة والحادية عشرة من صباح 5 حزيران 1967 كانت الناس تتجمهر وقوفاً في المقاهي وأمامها، مشدودة لأجهزة الراديو التي تذيع البيانات العسكرية من إذاعة صوت العرب من القاهرة وبطريقة النقل المباشر، كنت في حينه بعمر الدراسة المتوسطة غارساً جسدي بين جموع الناس أمام مقهى مصطفى في السماوه.
قرأ المذيع المصري وبصوت مجلجل بيان القيادة العامة للقوات المسلحة وجاء فيه: "بدأت المعركة... اسرائيل تبدأ العدوان في التاسعة من صباح اليوم، الطائرات الإسرائيلية أغارت على القاهرة وانحاء الجمهورية وطائراتنا واسلحتنا المضادة للطائرات تتصدى لطائرات العدو... وحتى الساعة 11,30 أسقطنا 44 طائرة حربية للعدو..."، وعندما انطلق نشيد: الله الله الله أكبر ...الله أكبر فوق كيد المعتدي، حال الانتهاء من إذاعة البيان كانت الجموع في المقهى والشارع تردد معه بهستيريا: الله الله أكبر ..."فقد كان يومها هتاف : اللهم صلي على محمد وآل محمد يستخدم فقط في الحسينيات وليس في المقاهي والشوارع".
توالت الساعات وانقضى اليوم وتبعه اليوم التالي فكنا نحن الذين نمقت عبد الناصر ونبغضه بغضاً جما قد تحولنا الى ناصريين قح فنحن قوم ندوس على جراحنا عندما يتعلق الأمر بمواجهة إسرائيل وأمريكا، ولكن كانت في نفوسنا غصة فنحن نريد أن نسمع دوراً لعراقنا وجيشنا في دك أركان العدو الغاشم، فكان حبل النجاة الذي أثلج صدورنا خطاب رئيسنا الهمام عبد الرحمن عارف وهو يعلن عن وصول جنودنا الى منطقة H3 القريبة من الحدود الأردنية ويوصيهم بأن لا تؤذوا شيخاً ولا تقطعوا شجره ليكتمل زهونا عند سماعنا لراديو صوت العرب من القاهرة يذيع بياناً عسكرياً قال فيه: "أفادت القيادة العسكرية العراقية بما يلي: قامت طائراتنا بقصف مدينة كذا... في فلسطين المحتلة، وأوقعت خسائر كذا... وكذا، ثم عادت إلى قواعدها سالمة".
وبعد أيام من الانتظار والخوف والقلق أذاع راديو صوت العرب بأن جمال عبد الناصر قبل بوقف إطلاق النار.
لنكتشف بعد حين:
- أننا فقدنا سيناء والجولان والضفة الغربية والقدس ومساحة من جنوب لبنان.
- وان بيانات صوت العرب من القاهرة عن اسقاط مئات الطائرات للعدو الإسرائيلي كانت محض هراء وإن صيحات أحمد سعيد مذيع صوت العرب من القاهرة التي خدر بها عقول الناس على مدى نصف قرن كانت مجرد ردح مصري على نغمة الـ "وحده ونص".
- وأن قيام الطائرات العراقية بقصف المدن الإسرائيلية كان كذب مضحك فقد قام أحمد أبو الجبن وهو الضابط البعثي الذي يحتفظ بسجل قذر في صفحات "كتاب المنحرفون" الذي أصدرته الحكومة بعد اسقاط الحرس القومي، وعينته الحكومة ابان حرب الأيام الستة مشرفاً على الأخبار في الإذاعة العراقية كان قد كتب البيان من عندياته ودفعه للمذيع ليقرأه وبعد إن نقلته الإذاعة المصرية عن إذاعة بغداد واخذ صداه المدوي في كبريات وكالات الأنباء العالمية، سأله المذيع عن مصدره فأجابه قائلاً: من عندي، دعما للمعنويات...! فكان مثل طِعم انتفاضة "حسنه ملص" الذي سربه العراقيون وبلعه صوت القاهرة.
- وعندما عاد أخي الجندي بعد مدة بإجازته من الأردن وكان من بين القطعات العسكرية التي أرسلها العراق للمشاركة في الحرب سألته عن تأثير وصايا السيد الرئيس لهم بعدم الاعتداء على العجائز والأطفال والشيوخ وعدم قطع الأشجار...؟ قال: كانت كلمة الرئيس وتحديده موقعنا بمثابة تحديد الإحداثيات عن مكاننا فقد قصفتنا الطائرات الإسرائيلية في منطقة H3 وكنا نحتمي خلف إطارات العجلات العسكرية من شظايا المقذوفات التي تسقط علينا ولا نملك غير 5 اطلاقات لكل منا ونحن ذاهبون للمعركة...!
- وفي حرب تشرين عام 1973 كانت ثغرة الدفرسوار القاتلة للجيش المصري.
أما عن حرب بناء القدرات الذرية وامتلاك الأسلحة النووية فانه:
في وقت قام به عبد القدير خان رائد القنبلة النووية الباكستانية وبعد ان جاب العديد من الدول الأوربية سعياً للعلم وبعد ان فجرت الهند قنبلتها النووية عام 1974 وبعد إن وجه رسالة الى رئيس وزراء الباكستان ذو الفقار علي بوتو يستحثه فيها على انشاء برنامج نووي باكستاني، وتكليف بوتو له عام 1975 ليرأس برنامج باكستان النووي، وبعد عمليات وإجراءات بالغة التعقيد يطول شرحها تمكن الدكتور عبد القدير خان وباكستان من بناء المشروع النووي الباكستاني، وبعد التجارب النووية الست التي قامت بها باكستان في ايار عام 1998 حصلت باكستان على تأشيرة الدخول إلى النادي النووي. بعدها قال الدكتور عبد القدير خان: "إن أحد أهم عوامل نجاح البرنامج في زمن قياسي كان - درجة السرية العالية - التي حُوفِظَ عليها".
تلك كانت الوصفة السحرية في بناء البرامج النووية في الدول .
أما في كوريا الشمالية فقد بدأت محاولاتها لامتلاك السلاح النووي منذ عام 1962 لكن تلك المحاولات قوبلت بالرفض من كل الدول بما في ذلك الاتحاد السوفييتي والصين إلا من مساعدة السوفييت لها في تطوير برنامج طاقة نووية سلمي... وفي عام 1985 صادقت الحكومة الكورية الشمالية على معاهدة الحد من انتشار الأسلحة النووية، لتعود في عام 1993 فتنسحب من المعاهدة، وفي عام 2002 حصل الأمريكان على اعترافات من باكستان وليبيا بحصول كوريا الشمالية على التقنية النووية الباكستانية، وفي عام 2006 أعلنت كوريا الشمالية عن إجرائها لأول اختبار نووي بنجاح وفي عام 2007 أكدت حيازتها الأسلحة النووية. وفي وقت كانت الدول الكبرى تقابل اعلانها بامتلاكها أسلحة نووية بعدم التصديق، فإن كوريا الشمالية أعلنت في عام 2015 امتلاكها قنبلة هيدروجينية، وهي سلاح أقوى بكثير من القنابل النووية التقليدية التي استخدمتها في الاختبارات السابقة ... كل ذلك كان يجري وكوريا الشمالية بين منضمة لمعاهدة الحد من انتشار الأسلحة النووية وبين منسحبة منها وبين تعليقها الانسحاب، وبين قابلة بالمفتشين الدوليين وبين طاردة لهم وبين حظراً لدخولهم، دون أن تنقطع عن تصريحاتها القائلة برغبتها بالتخلي طوعاً عن رغبتها النووية مقابل تطبيع الولايات المتحدة لعلاقاتها معها وتزويدها بشحنات غذائية ومساعدات إنسانية، لكن كيم جونغ أون كان يحتفظ في جيب معطفه الفضفاض يتوارثها أب عن جد بقصاصة مكتوب عليها عقيدته التي تقول: "أن الولايات المتحدة تملك طموحا أحمق لإسقاطِ جمهورية كوريا الديمقراطية الشعبية، ولذلك كانت هناك حاجة لإجراءٍ مضاد"...!
مقابل ذلك فإن صدام حسين عقد مؤتمراً أممياً وقاريّاً في بغداد دعا له كبريات التلفزة في دول العالم وهو يحمل كرات بحجم البرتقالة المتوسطة ليعلن للعالم: لقد صنعنا المتحسسات ...! وهي "المستشعرات" التي تستخدم ربما لاستشعار ارتفاع الحرارة في المطابخ ...! وتحدى أمريكا ودول الغرب قاطبة التي امتنعت عن تزويده بأجهزة ومعدات تستخدم في صناعة أسلحة الدمار الشامل علميا وتقنياً وهو يقول موجهاً كلامه لصهره حسين كامل: ما أوصيك يحسين أي دوله تريد منهن، زودهم مع استيفاء اثمانهن مقدماً... ليس هذا فحسب بل ان الطامة الكبرى إنه أعلن بأنه بات يمتلك السلاح الكيمياوي المزدوج المحرم دولياً وانه سيطلقه على إسرائيل وراح يهلطهم هلط...! على حد تعبيره.
أما القذافي فإنه وبمجرد حصوله على بعض المعدات والأسرار المهربة من باكستان تتعلق بالبرنامج النووي فإنه راح يعد - وعلى رؤوس الأشهاد - شعوب أمريكا اللاتينية المجاورة للولايات المتحدة الأمريكية نيكاراكَوا وهندوراس والهنود الحمر بأنه سيجعل من الرؤوس النووية في بيوتهم أكثر من البطيخ والباذنجان ليعلقوا في عنق كل أمريكي حبة منها...!
وفي إيران الإسلامية وعلى وقع صيحات الموت لإسرائيل والموت لأمريكا صرح أحمدي نجاد رئيس الجمهورية بأن المنظومة التي شكلتها إيران لملاحقة تسلل الموساد الى إيران تبين أن رئيس تلك المنظومة و20 من كبار العاملين فيها من الموساد الإسرائيلي نفسه في واقع الحال...!
ومعروف مآل صدام ومعه برنامجه النووي والكيمياوي، أما عن القذافي فليس فقط مآله وبرنامجه النووي فقط معروف بل ان ما تسبب به من تشويه لسمعة عبد القدير خان وكاد أن يوصله لحبل المشنقة ويطيح برأسه بعد ان وشى به وفضح امتلاك ليبيا أسرار البرنامج النووي فاتهموا عبد القدير خان بأنه هو من سرب الأسرار النووية الباكستانية لليبيا...!، أما عن إيران فقد شهدت الشهور القليلة الماضية ان الموساد الإسرائيلي مستوطن في الأماكن الحساسة فيها وهو يصول ويجول في أراضيها الى الحد الذي قتل علماءها ورئيسها وقادتها ويقيم المواقع لصنع الطائرات المسيرة داخل أراضيها.
ورغم ان الحالة الحزيرانية شهدت رغبة المشير عامر في مهاجمة إسرائيل بشكل استباقي في أيار 1967 لكن جمال عبد الناصر وقع تحت خداع لندن جونسون الرئيس الأمريكي بعدم وجود نية لدى إسرائيل بشن الحرب على مصر وكانت من نتائج ذلك ان المشير عامر انتحر لتفرغ أجهزة جمال عبد الناصر أسباب الهزيمة برأسه وعلى عاتقه، وفي حرب عام 1973 استشاط سعد الدين الشاذلي من ثغرة الدفرسوار ليسجنه أنور السادات ويبعده عن القرار العسكري، وفي إيران كان ترامب هذه المرة يخدع العالم بعدم وجود نية للحرب مع إيران وان نتنياهو لا يجرؤ على شنها ما لم يعطه ترامب الضوء الأخضر في حين أنهما يحضران للهجوم سويا.
وعلى الصعيد الفكري فقد أبلى الدكتور صادق جلال العظم بلاءً حسناً في تحليله منذ عام 1968 لواقع المجتمع العربي بعد الهزيمة من خلال كتابيه: النقد الذاتي بعد الهزيمة، ونقد الفكر الديني، لكنه في عام 2008 أعاد طبع كتابيه مع ملاحظة افتتاحية يقول فيها: نظراً لبقاء الظروف في العالم العربي على حالها طيلة الـ 40 عام بل زادت سوءا فقد استشعرت الحاجة لإعادة طبع الكتاب...! ومازال الحبل على الجرار.
وسيبقى امر الحزيرانيات مستوطن في منطقة الشرق الأوسط طالما استمرت أنظمة الحكم في الاستعراض والتهريج، وطالما بقيت مشغولة عن موساداتها بملاحقة مهازل الحجاب والرأي المختلف، وطالما بقيت استراتيجياتها مصممة لبناء المذهبيات والطائفية بدلاً من العلوم التطبيقية ...
وكل حزيران وشعوبها على هزيمه...
فائده 1: رأيي ورأيك ورأينا، دعائي ودعاؤك ودعاؤنا، شماتتي وشماتتك وشماتتنا ... ليس لها أدنى تأثير في مجريات الحرب الدائرة بين إسرائيل وإيران ولن تقدم أو تؤخر قيد أنملة، لكنها تعكس ثقافة كل منا...
ليس من منطلق ديني ولا من منطلق مذهبي ولا من منطلق عرقي إنما فقط من منطلق: أن الكره درجات والبغض درجات والعداء درجات فأنا مع أية دولة في المعمورة إذا كان خصمها إسرائيل...
فائده 2: البارحه أهل غزه يسخرون من أحد الإسرائيليين الذين طال عمارتهم القصف وهو يصرخ يريد خيمه...!
* رئيس هيئة النزاهة في العراق (سابقاً).