الانتقال الى مكتبة الفيديو

 
الوكالة الدولية للطاقة الذرية فَعَلتْها وحسب الطلب.. (2-2)

عندما ضرب المفاعل الذري العراقي كان العالم أكثر "براءةً" من الوقت الحاضر، أو أقل وحشيةً بتعبير ثانٍ. حتى الولايات المتحدة أدانت تلك الجريمة وصوتت لصالح قرار مجلس الأمن الدولي 487 الذي استنكر الفعلة وثبّت حق العراق في الحصول على التكنولوجية النووية السلمية، وحقه في المطالبة بالتعويض المادي عن الأضرار (اقرأ الملاحظة في نهاية المقال). ليس هذا فحسب بل إن الولايات المتحدة قررت تعليق صفقة بيع الطائرات المقاتلة أف-16 التي استخدمت إسرائيل وجبتها الأولى في ضرب المفاعل حينها.

قلت ان العالم كان أكثر "براءة" إلا أن السبب الحقيقي للموقف الدولي حينها ليست البراءة طبعاً، بل كان حالة التوازن النسبية بين الأقطاب الدولية ومحددات الحرب الباردة، والانتصارات التي كانت قد حققتها حركات التحرر الوطني في العقدين السابقين لذلك الحدث. وقد تمخض المشهد التحرري والنزوع نحو الاستقلال أيضاً عن اصدار الجمعية العامة للأمم المتحدة لقرارها المرقم 3379 في تشرين الثاني 1975 باعتبار الحركة الصهيونية حركةً عنصرية. وهذا القرار السياسي الهام ألغي فيما بعد في العام 1991 بعد أن بدأ انهيار المعسكر الاشتراكي وبقاء القطب الأمريكي، المتحالف عضوياً مع إسرائيل، منفرداً.

وللتذكير فإن الموقف الأمريكي في بداية عقد الستينات كان أكثر "إنصافاً" في محاولة منع إسرائيل من الحصول على السلاح النووي. فقد كانت إسرائيل نفسها من مؤسسي الوكالة الدولية للطاقة، وهي ما زالت كاملة العضوية بالوكالة، لكنها لم توقع معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية، التي وقعتها الدول الأعضاء. ومعروف بأن الرئيس الأمريكي جون كيندي كان حازماً في الطلب من إسرائيل، التي كان لديها برنامج نووي سرّي، لفتح منشآتها النووية للتفتيش الدولي، وضغط على بن غوريون وحكومته في أكثر من محفل آخرها برسالة شديدة اللهجة عام 1963. لكن اغتيال كيندي الغامض بعد شهور قليلة من تلك الرسالة التهديدية غيّر الموقف الأمريكي العقلاني من التسلح النووي الاسرائيلي. هناك من يجد ربطاً مباشراً بين موقف كيندي من إسرائيل وقصة اغتياله، وهناك من لا يعتقد بذلك، ولكن في كل الأحوال فقد أغلق بعد الاغتيال ملف الضغط الأمريكي على إسرائيل، بل تحولت إسرائيل وحمايتها الى أولوية أمريكية، وضعتها فوق القوانين والمصالح، ولم تكشف الوثائق السرية التي أمر دونالد ترامب بنشرها بعد تسلمه الرئاسة في كشف الغموض المحيط باغتيال جون كيندي!

أصبح العراق عضوا في الوكالة الدولية للطاقة الذرية في عام 1959، أي أن فكرة تطوير التقنية النووية في العراق كانت قائمة قبل ذلك، أي منذ العهد الملكي، لكن مصائر العراق السياسية انتهت بأيدي الطاغية المتهور صدام حسين، الذي غامر بقدرات العراق وبسيادته وانتهت معه طموحات العراق في الاستفادة السلمية من الطاقة النووية على أيدي إسرائيل، إثر جريمة قصف المفاعل العراقي، وعجز العراق عن انتزاع حقوقه المثبتة في قرار مجلس الأمن 487.

قامت إسرائيل بجريمتها تلك، وهي كما نعرف لا تحتاج الى ذريعة، إلا أنها اتكأت على ادعاءات صدام حسين وشعاراته بتدمير إسرائيل، لتصوير الجريمة باعتبارها "دفاعاً عن النفس"، ولم تُعر أي اعتبار لمدى الالتزام بضمانات الوكالة الدولية للطاقة الذرية التي كانت تشرف على المفاعل العراقي.

وبالطبع كانت، وما زالت، إسرائيل تتمتع بدعم غربي متصاعد مع الوقت مهما أوغلت في خرق القوانين والأنظمة الدولية. وحتى عندما دعا مجلس محافظي الوكالة إسرائيل الى "الانضمام الى معاهدة منع الانتشار النووي ووضع منشآتها النووية تحت الضمانات الشاملة للوكالة الدولية للطاقة الذرية" في عام 2009 كانت نتيجة التصويت غريبة وبالضد من جوهر عمل الوكالة. فقد صوّت 49 عضواً فقط لصالح القرار مقابل 45 صوتاً بالضد وامتنعت 16 دولة عن التصويت. أي أن القرار لم يحصل على 50‌% من أصوات الأعضاء، والأسوأ هو أن كل الدول الغربية وقفت ضد القرار!

وبذلك، وفي غيره من المواقف المنافقة، ساعد الغرب على تجنيب إسرائيل أي نوع من المحاسبة على برامجها النووية، في حين بقي يلاحق إيران ويستخدم التقارير الدورية للوكالة لتبرير جرائم القصف الإسرائيلي والأمريكي على منشآت تخضع للرقابة الدولية، وسبق ان تم التوصل الى اتفاقات دولية بشأنها، ضرب بها عرض الحائط ببلطجية مفضوحة لكل عينٍ بصيرة.

إن تحويل وكالة فنية بحت تساعد على تطوير استخدامات الذرة سلمياً الى وكالة سياسية تستخدم ضد أطراف ملتزمة بمبادئ القانون الدولي وتسعى الى الاستفادة من التكنولوجية النووية هو أمر يدعو للغضب والاستنكار. وان العدوان الإسرائيلي المدعوم أمريكياً أفرغ دور الوكالة الدولية للطاقة الذرية من مضمونه، بل وجعل أمر التسليح النووي الإيراني أمراً ممكناً بعد اختفاء كميات كبيرة من اليورانيوم المخصب من موقع الرقابة الى أماكن مجهولة.

أعتقد ان الشخصية الضعيفة للمدير العام للوكالة حالياً رافائيل غروسي يسهم في المزيد من ضعف الوكالة أمام الإرادة الإسرائيلية. كذلك أسهمت قيادة الدكتور محمد البرادعي للوكالة في فترة "المواجهة" مع العراق والحزم المفتعل الذي أظهره مع العراق فتح المزيد أمام الإرادة الإسرائيلية والغربية في المنطقة.

ملاحظة:

قامت حكومة صدام حسين بتشكيل لجنة مختصة لمتابعة تنفيذ قرار مجلس الأمن 487، وبسبب العزلة والحصار والحروب والاحتلال لم تستطع اللجنة تحقيق مهامها. أما حكومات ما بعد 2003 فقد أغفلت عمل اللجنة الى أن انتبهت الحكومة الحالية لوجود اللجنة فأصدرت قراراً بحلها وصار الله يحب المحسنين!!

  كتب بتأريخ :  الثلاثاء 01-07-2025     عدد القراء :  99       عدد التعليقات : 0