اطلعنا مؤخرا على خبر يشير الى خطوة ضخمة تتخذها الصين نحو تحقيق رؤيتها لـ"امة متعلمة" بحلول عام 2035. فقد وجه الحزب الشيوعي الصيني حوالي 40% من طلاب الجامعات للتخصصات الهندسية والتقنية، واستحدثت الجامعات اكثر من 1900 تخصص جديد، مقابل الغاء 1650 تخصصا تقليديا لم تعد تلبي "حاجات السوق الحديث". هذه الارقام مذهلة، وتشمل تخصصات واعدة مثل هندسة الذكاء الاصطناعي وتكنولوجيا الاقتصاد منخفض الارتفاع والحوسبة الكمومية التطبيقية، بينما تم التخلص من تخصصات عريقة كالادب الكلاسيكي الصيني والفلسفة التقليدية والتاريخ القديم وعلم الاجتماع العام.
ان الهدف الاستراتيجي المعلن لهذه السياسة هو "تجهيز جيل يقود المستقبل... لا يلاحقه"، وبشكل اكثر تحديدا، "توطين التعليم مع متطلبات الثورة الصناعية الرابعة" و "بناء كوادر تكنولوجية قادرة على الابتكار" و"تحقيق الريادة العالمية بحلول 2035". بينما تبدو هذه الاهداف نبيلة وطموحة، فان الطريقة المتبعة، وهي التضييق الشديد على التخصصات وتجاهل العلوم الانسانية، قد تؤدي الى نتائج عكسية تماما ومخاطر جسيمة على التوازن البشري والفكري.
تغليب الالة على الانسان
هذا التوجه الصيني، الذي يركز بشكل مفرط على الاتمتة وسيطرة الذكاء الاصطناعي وتغليب الالة على الانسان، يثير قلقا عميقا. هذا المسار خاطئ، فهو لا يمثل تقدما، بل نكوصا خطيرا في مفهوم التعليم الشامل وتنمية الانسان المتكامل. ان اختزال العملية التعليمية في مجرد "مصنع" لتخريج عمال تقنيين دون تطوير مهارات اكثر شمولية هو امر غير صحيح.
يمكن ملاحظة هذا الاتجاه من خلال مقارنة صادمة: فبينما يتم الاحتفاء بتخصصات مثل "هندسة الجزيئات الذكية" و"الامن السيبراني المتقدم"، تلقى تخصصات تمثل ركائز الفكر البشري جانبا.
تراجع التفكير النقدي وضعف فهم الذات والمجتمع
ان الغاء تخصصات مثل الفلسفة يحمل في طياته خطرا حقيقيا على قدرة المجتمع على التفكير النقدي. الفلسفة والعلوم الانسانية ليست مجرد مواد اكاديمية، بل هي ادوات جوهرية تعلم الناس كيفية تحليل الافكار ونقد الانظمة وتطوير المنطق. غيابها قد يؤدي الى مجتمع اقل قدرة على مواجهة التحديات الاخلاقية والسياسية وحتى التكنولوجية بوعي وحكمة. كيف يمكن لجيل يقود المستقبل ان يتخذ قرارات صائبة دون امتلاك الادوات الفكرية اللازمة لتقييم النتائج بعمق؟
علاوة على ذلك، فان اهمال تخصصات مثل التاريخ القديم وعلم الاجتماع العام والادب والفنون سيؤدي حتما الى ضعف فهم الذات والمجتمع. هذه التخصصات تساعد البشر على فهم انفسهم وماضيهم وتطور مجتمعاتهم وثقافاتهم الغنية. ان تجاهلها قد يؤدي الى مجتمع اكثر سطحية، واقل وعيا بهويته، واقل قدرة على التعاطف والتفاعل الانساني الفعال. كيف يمكن لامة ان "تقود" العالم وهي تفتقر الى فهم عميق لجوهر الانسانية؟
ثقافة اقل تنوعا وجمالا
لا يقتصر الامر على الفكر النقدي والفهم الاجتماعي فحسب، بل يمتد ليشمل تراجع الفنون والابداع. العلوم الانسانية تغذي الابداع الادبي والفني، وتفتح افاقا للخيال والتعبير عن الذات الانسانية. ان الغاء تخصصات مثل الرسوم المتحركة والموسيقى التقليدية، وحتى التصميم الداخلي (الذي يجمع بين الجانب الفني والوظيفي)، قد يؤدي الى ثقافة اقل تنوعا وجمالا، ويفقد المجتمع جزءا كبيرا من روحه والهامه. الابداع ليس حكرا على التكنولوجيا؛ بل هو نتاج تلاقح الافكار والرؤى المتنوعة، والتي غالبا ما تنبع من الفنون والعلوم الانسانية.
تماهي مقلق مع سياسات ترامب
هذا التوجه الصيني الذي يركز على تهميش الدراسات الانسانية يتشابه بشكل مقلق مع السياسات التي تبنتها ادارة ترامب في الولايات المتحدة. فخلال ولايته هذه، شنت ادارة ترامب هجوما واضحا وممنهجا على الدراسات الانسانية والفنون الليبرالية، والوكالات الفيدرالية الداعمة لها، مبررة ذلك بعدم "تلبية احتياجات السوق" وكونها لا تخدم "الاقتصاد المنتج" بشكل مباشر. لقد تجلى هذا الهجوم في عدة اوجه، ابرزها محاولات الغاء او تخفيضات هائلة في ميزانيات مؤسسات حيوية كـ الصندوق الوطني للعلوم الإنسانية (National Endowment for the Humanities - NEH)، والصندوق الوطني للفنون (National Endowment for the Arts - NEA)، ومعهد خدمات المتاحف والمكتبات (Institute of Museum and Library Services - IMLS)، بحجة ان هذه البرامج "غير ضرورية" او "ترف" لا تساهم مباشرة في النمو الاقتصادي، وهو ما يعكس نظرة ضيقة وقاصرة لقيمة المعرفة والثقافة. كما شجعت الادارة الامريكية بشكل صريح على التوجه نحو التعليم المهني والتقني على حساب الفنون الليبرالية، في محاولة لربط التعليم مباشرة بمتطلبات سوق العمل الفورية، متجاهلة الفوائد طويلة المدى التي تقدمها الدراسات الإنسانية في بناء مواطن شامل ومتكامل. ولم يقتصر الأمر على العلوم الانسانية، بل امتد ليشمل التشكيك في قيمة البحث الأساسي بشكل عام، مفضلة الأبحاث التطبيقية ذات النتائج التجارية المباشرة، مما يعكس رؤية اختزالية للعلم والمعرفة، ويتجاهل الدور المحوري الذي يلعبه البحث الاساسي، المدفوع غالبا بالفضول الفكري، في ارساء أسس الابتكارات المستقبلية.
ان هذا الاختزال للمجتمع البشري في مجرد "سوق عمل" والتعليم في "تدريب مهني" هو امر غير صحيح. فالتعليم خاصة في الدول الصناعية المتطورة اسمى من ان يكون مجرد اداة اقتصادية. انه استثمار في العقل البشري وفي بناء مواطنين واعين قادرين على المساهمة في مجتمعاتهم على كافة الأصعدة — فكرية وثقافية واجتماعية واخلاقية، وليس فقط تقنية او اقتصادية. هذه السياسات، سواء في الصين او في الولايات المتحدة، تضرب في الصميم فكرة التعليم الشامل الذي يهدف الى تنمية الإنسان ككل، وليس فقط ككائن منتج.
هل ستفشل الصين في بناء قادة حقيقيين؟
امة تفتقر الى الفكر النقدي والوعي الثقافي العميق والذكاء الاجتماعي، قد تكون بارعة في انتاج الالات والتكنولوجيا، ولكنها ستفشل حتما في فهم العالم المعقد الذي نعيش فيه. كيف يمكنها التفاعل بفعالية مع التحديات الانسانية المتشابكة او قيادة البشرية نحو مستقبل مستدام وشامل؟
ان القيادة الحقيقية لا تتطلب الكفاءة التقنية فحسب، بل تتطلب ايضا الحكمة والرؤية الشاملة والقدرة على فهم البشرية في كل تعقيداتها وتنوعها. هذه السياسة التعليمية، على الرغم من طموحها التكنولوجي الهائل، قد تخلق جيلا من المهندسين الاكفاء جدا في مجالاتهم الضيقة، لكنها ستفشل فشلا ذريعا في بناء قادة حقيقيين قادرين على تشكيل مستقبل عالمي متوازن وانساني. هذا التحول ليس تقدما، بل هو تضحية بالجوهر الانساني على مذبح "التقدم التكنولوجي" الاعمى.
ما هو الثمن الحقيقي لـ "الريادة العالمية" اذا فقدت الامة انسانيتها؟